ذكر أماكن في النار وردت بأسمائها الأحاديث وبيان
صحيح ذلك وسقيمه
قال الله تعالى : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [ القارعة : 8 ، 9
] . قيل : فأم رأسه هاوية : أي ساقطة ، من الهوي في النار . قال ابن جريج : الهاوية : هي
أسفل درك في النار . كما ورد في الحديث
: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها
في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب "
. وفي رواية : " سبعين خريفا " . وقيل :
المراد بقوله : فأمه هاوية . أي الدرك الأسفل من النار ، أو هي صفة
النار من حيث هي . وقد ورد في الحديث ما يقوي هذا المعنى ، والله أعلم .
قال أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه : حدثنا عبد الله
بن خالد بن [ ص: 162 ] محمد بن رستم ، حدثنا محمد بن طاهر بن أبي الدميك ، حدثنا إبراهيم
بن زياد ، سبلان ، حدثنا عباد بن عباد ، حدثنا روح بن المسيب ، أنه سمع ثابتا
البناني يحدث عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات
المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فإن كان مات
ولم يأتهم ، قالوا : خولف به إلى أمه الهاوية ، فبئست الأم ، وبئست المربية . حتى
يقولوا : ما فعل فلان ؟ هل تزوج ؟ ما فعلت فلانة ؟ هل تزوجت ؟ فيقولون : دعوه
يستريح ، فقد خرج من كرب الدنيا "
.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور
، عن معمر ، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى ، قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح
المؤمنين ، فيقولون ؟ روحوا أخاكم ، فإنه كان في غم الدنيا . قال : ويسألونه : ما
فعل فلان ؟ فيقول : مات ، أوما جاءكم ؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية . وروى الحافظ
الضياء من طريق شريك القاضي ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد
الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القتل في سبيل الله يكفر
الذنوب كلها - أو قال : يكفر كل ذنب - إلا [ ص: 163 ] الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة ،
فيقال له : أد أمانتك . فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا . ثلاث مرات ، فيقال :
اذهبوا به إلى الهاوية ، فيذهب به إليها ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها ،
فيجدها هناك كهيئتها ، فيحملها ، فيضعها على عاتقه ، ثم يصعد بها في نار جهنم ،
حتى إذا رأى أنه قد خرج منها ، زلت ، فهوى في أثرها أبد الآبدين " .
قال : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ،
والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع . قال - يعني زاذان : فلقيت البراء ، فقلت
: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق .
وهذا الحديث ليس هو في المسند ، ولا في شيء من الكتب
الستة .
....................................
[ ص: 148 ] قوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية قد
تقدم القول في الميزان في ( الأعراف والكهف والأنبياء ) . وأن له كفة ولسانا توزن
فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات . ثم قيل : إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن
أعمال بني آدم ، فعبر عنه بلفظ الجمع . وقيل : موازين ، كما قال :
ملك تقوم الحادثان لعدله فلكل حادثة لها ميزان
وقد ذكرناه فيما تقدم . وذكرناه أيضا في كتاب ( التذكرة ) وقيل : إن الموازين
الحجج والدلائل ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، واستشهد بقول الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه
ومعنى فهو في عيشة راضية أي عيش مرضي ، يرضاه صاحبه . وقيل : عيشة راضية أي فاعلة للرضا ، وهو اللين والانقياد لأهلها .
فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها ، وهو اللين والانقياد . فالعيشة كلمة
تجمع النعم التي في الجنة ، فهي فاعلة للرضا ، كالفرش المرفوعة ، وارتفاعها مقدار
مائة عام ، فإذا دنا منها ولي الله اتضعت حتى يستوي عليها ، ثم ترتفع كهيئتها ،
ومثل الشجرة فرعها ، كذلك أيضا من الارتفاع ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها تدلت
إليه ، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما ، وذلك قوله تعالى : قطوفها دانية . وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان ، جرى معه
نهر حيث شاء ، علوا وسفلا ، وذلك قوله تعالى : يفجرونها تفجيرا . فيروى في الخبر ( إنه يشير بقضيته فيجري من
غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه ) . فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا
من نفسها ، فهي فاعلة للرضا ، وهي انذلت وانقادت بذلا وسماحة .
ومعنى فأمه هاوية يعني جهنم . وسماها أما ، لأنه يأوي إليها كما يأوي
إلى أمه ، قاله ابن زيد . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد
وسميت النار هاوية ; لأنه يهوى
فيها مع بعد قعرها . ويروى أن الهاوية اسم الباب [ ص: 149 ] الأسفل من النار .
وقال قتادة : معنى فأمه هاوية فمصيره إلى النار . عكرمة : لأنه يهوي فيها على أم
رأسه . الأخفش : أمه : مستقره ، والمعنى متقارب . وقال الشاعر :
يا عمرو لو نالتك أرماحنا كنت كمن تهوي به الهاوية
والهاوية : المهواة . وتقول :
هوت أمه ، فهي هاوية ، أي ثاكلة ، قال كعب بن سعد الغنوي :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يؤدي الليل حين يئوب
والمهوى والمهواة : ما بين
الجبلين ، ونحو ذلك . وتهاوى القوم في المهواة : إذا سقط بعضهم في إثر بعض .
وما أدراك ما هيه الأصل ( ما هي ) فدخلت الهاء للسكت . وقرأ حمزة
والكسائي ويعقوب وابن محيصن ( ما هي نار ) بغير هاء في الوصل ، ووقفوا بها . وقد
مضى في سورة الحاقة بيانه .
نار حامية أي شديدة الحرارة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين
جزءا من حر جهنم . قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله . قال : فإنها فضلت
عليها بتسعة وستين جزءا ، كلها مثل حرها .
وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال : إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه ; لأنه
وضع فيه الحق ، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا . وإنما خف ميزان من خف
ميزانه ; لأنه وضع فيه الباطل ، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا . وفي
الخبر عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن الموتى يسألون
الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله ، فيقول ذلك مات قبلي ، أما مر بكم ؟ فيقولون لا
والله ، فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون ! ذهب به إلى أمه الهاوية ، فبئس الأم ،
وبئس المربية " . وقد ذكرناه بكماله في كتاب ( التذكرة ) ، والحمد لله .
قوله تعالى فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق