الله أكبر كبيرا

كتاب جواهر القرآن أبو حامد الغزالي مكتبة العلوم الشاملة /مكتبة العلوم الشاملة /https://sluntt.blogspot.com/

الأحد، 25 يوليو 2021

ذكر كيفية تفرق العباد عن موقف الحساب وما إليه أمرهم يصير ; ففريق في الجنة وفريق في السعير

 

   ذكر كيفية تفرق العباد عن موقف الحساب وما إليه أمرهم يصير ; ففريق في الجنة وفريق في السعير      

قال الله تعالى : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون [ مريم : 39 ] . وقال تعالى : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ الروم : 14 - 16 ] . وقال تعالى : فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون [ الروم : 43 ] . وقال تعالى : ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون الآيات إلى قوله : وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين [ ص: 71 ] [ الجاثية : 27 - 31 ] إلى آخر السورة . وقال تعالى : ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا [ الزمر : 70 ، 71 ] الآيات إلى آخر السورة ، وذكر أن هؤلاء سيقوا إلى الجنة ، وهؤلاء سيقوا إلى جهنم ، بعد موقف الحساب وانصرافهم عنه . وقال تعالى : يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ هود 105 - 108 ] . وقال تعالى : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ الشورى : 7 ] . وقال تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير [ التغابن : 9 ، 10 ] . وقال تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ مريم : 85 ، 86 ] . وقال تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون [ آل عمران : 106 ، 107 ] .

والآيات في هذا كثيرة جدا ، ولنذكر من الأحاديث ما يناسب هذا المقام ، وهي مشتملة على مقاصد كثيرة غير هذا الفصل ، وسنشير إليها .

[
ص: 72 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن عثمان العجلي ، حدثنا أبو أسامة ، عن مالك بن مغول ، عن القاسم بن الوليد ، في قوله تعالى : فإذا جاءت الطامة الكبرى [ النازعات : 34 ] . قال : حين سيق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار .

إيراد الأحاديث في ذلك : قال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد وعطاء بن يزيد ، أن أبا هريرة أخبرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ح ) . وحدثني محمود ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة ، قال : قال أناس : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب " ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ، ليس دونه سحاب " ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : " فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك ، يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه . فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم . فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا [ ص: 73 ] جاء ربنا عرفناه . فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم . فيقولون : أنت ربنا . فيتبعونه ، ويضرب جسر جهنم " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يجيز . ودعاء الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم . وفيه كلاليب مثل شوك السعدان ، أما رأيتم شوك السعدان ؟ " قالوا : نعم ، يا رسول الله . قال : " فإنها مثل شوك السعدان ، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل ، فتخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم الموبق بعمله ، ومنهم المخردل ، ثم ينجو ، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده ، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرجه ، ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله ، أمر الملائكة أن يخرجوهم ، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود ، فيخرجونهم قد امتحشوا ، فيصب عليهم ماء ، يقال له : ماء الحياة . فينبتون نبات الحبة في حميل السيل ، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ، فيقول : يا رب ، قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار . فلا يزال يدعو الله ، فيقول : لعلك إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ؟ فيقول : لا ، وعزتك لا أسألك غيره . فيصرف وجهه عن النار ، ثم يقول بعد ذلك : يا [ ص: 74 ] رب ، قربني إلى باب الجنة . فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك ! يا بن آدم ، ما أغدرك ! فلا يزال يدعو ، فيقول : لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ؟ فيقول : لا ، وعزتك ، لا أسألك غيره . فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنة ، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : رب ، أدخلني الجنة . فيقول : أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك يا بن آدم ، ما أغدرك ! . فيقول : يا رب ، لا تجعلني أشقى خلقك . فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله منه ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ، فإذا دخل فيها قيل له : تمن من كذا . فيتمنى ، ثم يقال له : تمن من كذا . فيتمنى ، حتى تنقطع به الأماني ، فيقول : هذا لك ، ومثله معه " . قال أبو هريرة : وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا . قال : وأبو سعيد الخدري جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئا من حديثه ، حتى إذا انتهى إلى قوله : " هذا لك ومثله معه " . قال أبو سعيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هذا لك وعشرة أمثاله " . قال أبو هريرة : ما حفظت إلا : " ومثله معه " .

وهكذا رواه البخاري من حديث إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، به ، وزاد : فقال أبو سعيد : أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " ذلك لك وعشرة أمثاله " ، وهذا الإثبات من أبي سعيد مقدم على ما لم يحفظه أبو هريرة ، حتى ولو نفاه أبو هريرة قدمنا إثبات أبي سعيد ، لما معه من زيادة الثقة المقبولة ، لا سيما وقد تابعه غيره من الصحابة ، كابن مسعود ، كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى .

[
ص: 75 ] وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قلنا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا ؟ قال : " هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا ؟ " قلنا : لا . قال : " فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما " . قال : " ثم ينادي مناد : ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون . فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم ، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم ، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم ، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر ، وغبرات من أهل الكتاب ، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب ، فيقال لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزيرا ابن الله . فيقال لهم : كذبتم ; لم يكن لله صاحبة ولا ولد ، فما تريدون ؟ قالوا : نريد أن تسقينا . قال : فيقال : اشربوا . فيتساقطون في جهنم ، ثم يقال للنصارى : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد المسيح ابن الله . فيقال لهم : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد . فيقال : ما تريدون ؟ فيقولون : نريد أن تسقينا . فيقال : اشربوا . فيتساقطون فيها حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر ، فيقال لهم : ما يجلسكم وقد ذهب الناس ؟! فيقولون : إن لنا إلها كنا نعبده ، فارقنا الناس ، ونحن أحوج منا إليه اليوم ، وإنا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا [ ص: 76 ] يعبدون . وإنا ننتظر ربنا ، عز وجل " . قال : " فيأتيهم الجبار ، سبحانه ، في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة ، فيقول : أنا ربكم . فيقولون : أنت ربنا ؟ ولا يكلمه يومئذ إلا الأنبياء ، فيقال : هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها ؟ فيقولون : الساق . فيكشف عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة ، فيذهب كيما يسجد ، فيعود ظهره طبقا واحدا ، ثم يؤتى بالجسر ، فيجعل بين ظهري جهنم " . قلنا : يا رسول الله ، وما الجسر ؟ قال : " مدحضة مزلة ، عليه خطاطيف ، وكلاليب ، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفة تكون بنجد ، يقال لها : السعدان . المؤمن عليها كالطرف ، وكالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل ، والركاب ، فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكدوس في نار جهنم ، حتى يمر آخرهم يسحب سحبا ، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم ، من المؤمنين يومئذ للجبار ، إذا رأوا أنهم قد نجوا ، في إخوانهم ، يقولون : ربنا ، إخواننا كانوا يصلون معنا ، ويصومون معنا ، ويعملون معنا . فيقول الله تعالى : اذهبوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوهم . ويحرم الله صورهم على النار ، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدميه ، وإلى أنصاف ساقه ، فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون ، فيقول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه . فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون ، فيقول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه . [ ص: 77 ] فيخرجون من عرفوا " . قال أبو سعيد : فإن لم تصدقوني فاقرءوا : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ النساء : 4 ] . " فيشفع النبيون ، والملائكة ، والمؤمنون ، فيقول الجبار ، عز وجل : بقيت شفاعتي . فيقبض قبضة ، فيخرج أقواما قد امتحشوا ، فيلقون في نهر بأفواه الجنة ، يقال له : نهر الحياة . فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل ، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة ، وإلى جانب الشجرة ، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر ، وما كان منها إلى الظل كان أبيض ، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ ، فيجعل في رقابهم الخواتيم ، فيدخلون الجنة ، فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن ، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدموه . فيقال لهم : لكم ما رأيتم ومثله معه " .

وقال مسلم : حدثنا عبيد ‌‌الله بن سعيد ، وإسحاق بن منصور ، كلاهما عن روح ، قال عبيد الله : حدثنا روح بن عبادة القيسي ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود ، فقال : نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا - انظر : أي ذلك فوق الناس - قال : فتدعى الأمم [ ص: 78 ] بأوثانها وما كانت تعبد ، الأول فالأول ، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول : من تنتظرون ؟ فيقولون : ننتظر ربنا . فيقول : أنا ربكم . فيقولون : حتى ننظر إليك . فيتجلى لهم يضحك ، قال : فينطلق بهم ، ويتبعونه ، ويعطى كل إنسان منهم ; منافق أو مؤمن نورا ، ثم يتبعونه ، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك ، تأخذ من شاء الله ، ثم يطفأ نور المنافقين ، ثم ينجو المؤمنون ، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر ، سبعون ألفا لا يحاسبون ، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ، ثم كذلك ، ثم تحل الشفاعة ، فيشفعون ، حتى يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، فيجعلون بفناء الجنة ، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ، ويذهب حراقه ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا ، وعشرة أمثالها معها .

وقال مسلم : حدثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، وأبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله سبحانه الناس ، فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة ، فيأتون آدم ، فيقولون : يا أبانا ، استفتح لنا الجنة . فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ؟! لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله " . قال : " فيقول إبراهيم : لست [ ص: 79 ] بصاحب ذلك ، إنما كنت خليلا من وراء وراء ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليما . فيأتون موسى . فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه . فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى محمد . فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم ، فيقوم ويؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا ، فيمر أولكم كالبرق " . قال : قلت : بأبي أنت وأمي ، أي شيء كمر البرق ؟ قال : " ألم تروا إلى البرق ، كيف يمر ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ، ثم كمر الطير ، وشد الرجال ، تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط ، يقول : رب ، سلم سلم . حتى تعجز أعمال العباد ، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا " . قال : " وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة ، تأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ، ومكدوس في النار " . والذي نفس أبي هريرة بيده ، إن قعر جهنم لسبعون خريفا .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عمارة القرشي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الله تعالى الأمم في صعيد واحد ، فإذا أراد أن يصدع بين خلقه مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون ، فيتبعونهم حتى يقحمونهم النار ، ثم يأتينا ربنا ونحن في مكان رفيع ، فيقول : ما أنتم ؟ فنقول : نحن المسلمون . فيقول : ما تنتظرون ؟ فنقول : ننتظر ربنا . فيقول : هل تعرفونه [ ص: 80 ] إن رأيتموه ؟ فنقول : نعم . فيقول : وكيف تعرفونه ولم تروه ؟ فنقول : إنه لا عدل له . فيتجلى لنا ضاحكا ، فيقول : أبشروا معشر المسلمين ; فإنه ليس منكم أحد إلا قد جعلت مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا " .

وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الصمد وعفان ، عن حماد بن سلمة ، به مثله ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه ، ولكن روى مسلم من حديث سعيد بن أبي بردة وعون بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي بردة ، عن أبيه أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا " . 

.........................

·  قوله : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون

[ ص: 32 ] قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم أي ذلك الذي ذكرناه عيسى ابن مريم فكذلك اعتقدوه ، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار ، ولا كما قالت النصارى : إنه الإله أو ابن الإله . قول الحق قال الكسائي : قول الحق نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحق . وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله ؛ والحق هو الله - عز وجل - . وقال أبو حاتم : المعنى هو قول الحق . وقيل : التقدير هذا الكلام قول الحق . قال ابن عباس : يريد هذا كلام عيسى - صلى الله عليه وسلم - قول الحق ليس بباطل ؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال : وعد الصدق الذي كانوا يوعدون أي الوعد والصدق . وقال : وللدار الآخرة خير أي ولا الدار الآخرة . وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق بالنصب على الحال ؛ أي أقول قولا حقا . والعامل معنى الإشارة في ( ذلك ) . الزجاج : هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه . وقيل : مدح . وقيل : إغراء . وقرأ عبد الله قال الحق وقرأ الحسن قول الحق بضم القاف ، وكذلك في ( الأنعام ) قوله الحق . والقول والقال والقول بمعنى واحد ، كالرهب والرهب والرهب الذي من نعت عيسى .

فيه يمترون أي يشكون ؛ أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون القول الحق . وقيل : يمترون يختلفون . ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون قال : اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع ؛ فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية . فقالت الثلاثة : كذبت . ثم قال اثنان منهم للثالث : قل فيه ، قال : هو ابن الله وهم النسطورية ، فقال الاثنان كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه ، فقال : هو ثالث ثلاثة ، الله إله وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى . قال الرابع : كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين ، فذلك قول الله تعالى : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس .

وقال قتادة : وهم الذين قال الله تعالى فيهم : فاختلف الأحزاب من بينهم اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول الذي فيه تمترون بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها [ ص: 33 ] ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه ؛ ذكره الماوردي .

قلت : ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا ، وأن الله تعالى أوحى إلى يوسف النجار في الحلم ، وقال له : قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر ، وكن هناك حتى أقول لك ، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه ، وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر ، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر ، فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ، ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ؛ ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم ، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة ، وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا ، وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة ، فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن ، ويحضرون إليها في عيد الفصح من كل مكان ؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر ، ومنها عاد إلى الشام . والله أعلم . قوله تعالى : ما كان لله أي ما ينبغي له ولا يجوز أن يتخذ من ولد ( من ) صلة للكلام ؛ أي أن يتخذ ولدا . و ( أن ) في موضع رفع اسم كان أي ما كان لله أن يتخذ ولدا ؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد ، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال : سبحانه أن يكون له ولد . إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون تقدم في سورة ( البقرة ) مستوفى . وإن الله ربي وربكم قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح ( أن ) وأهل الكوفة ( وإن ) بكسر الهمزة على أنه مستأنف . تدل عليه قراءة أبي ( كن فيكون وإن الله ) بغير واو على العطف على قال إني عبد الله وفي الفتح أقوال : فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى ؛ ولأن الله ربي وربكم ، وكذا وأن المساجد لله ف ( أن ) في موضع نصب عندهما .

وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام ، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى ؛ [ ص: 34 ] وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم ؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى ؛ والأمر أن الله ربي وربكم . وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله ، وهو أن يكون المعنى : وقضى أن الله ربي وربكم ؛ فهي معطوفة على قوله : ( أمرا ) من قوله : إذا قضى أمرا والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله . ولا يبتدأ ب ( أن ) على هذا التقدير ، ولا على التقدير الثالث . ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية . فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي دين قويم لا اعوجاج فيه .

قوله تعالى : فاختلف الأحزاب من بينهم من زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم . وقال قتادة : أي ما بينهم فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى - عليه السلام - فاليهود بالقدح والسحر . والنصارى قالت النسطورية منهم : هو ابن الله . والملكانية ثالث ثلاثة . وقالت اليعقوبية : هو الله ؛ فأفرطت النصارى وغلت ، وفرطت اليهود وقصرت . وقد تقدم هذا في ( النساء ) وقال ابن عباس : المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذبوه من المشركين .

فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أي من شهود يوم القيامة ، والمشهد بمعنى المصدر ، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم ، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه ، كما يقال : ويل لفلان من قتال يوم كذا ؛ أي من حضوره ذلك اليوم . وقيل : المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق ، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق . وقيل : فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور ، فأجمعوا على الكفر بالله وقولهم : إن الله ثالث ثلاثة . قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا قال أبو العباس : العرب تقول هذا في موضع التعجب ؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره . قال : فمعناه أنه عجب نبيه منهم . قال الكلبي : لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر ، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله . وقيل : أسمع بمعنى الطاعة ؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم لكن الظالمون اليوم يعني في الدنيا . في ضلال مبين وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام ، وأكل وشرب ، وأحدث واحتاج أنه إله ؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذاب ، ولكنه لا ينفعه ذلك ؛ قال معناه قتادة وغيره . قوله تعالى : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر روي عن عبد الله بن مسعود أنه [ ص: 35 ] قال : ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه . وقيل : تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله . إذ قضي الأمر أي فرغ من الحساب ، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح . وقد ذكرنا ذلك في كتاب ( التذكرة ) وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال : إن صفة الغضب تنقطع ، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة .

قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها أي نميت سكانها فنرثها . وإلينا يرجعون يوم القيامة فنجازي كلا بعمله ، وقد تقدم هذا في ( الحجر ) وغيرها .

الجامع لأحكام القرآن »

سورة مريم »

قوله تعالى ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللهم تقبل

اللهم ارحم والدَّي   واغفر لهما وارض عنهما وجميع اهلي ما دامت السماوات والارض*وعافني ومحمد اخي   وكل مؤمن ومؤمنة واعفو عنا وعافنا   واشف...