ذكر دنو الساعة واقترابها وأنها آتية لا ريب فيها ، وأنها لا تأتي إلا بغتة ، ولا يعلم وقتها على التعيين إلا الله سبحانه
ولهذا لما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، قال له : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . يعني قد استوى فيها علم كل مسئول وسائل بطريق الأولى والأحرى " لأنه إن كانت الألف واللام في المسئول والسائل للعهد [ ص: 299 ] عائدة عليه وعلى جبريل ، فكل أحد ممن سواهما لا يعلم ذلك بطريق الأولى والأحرى ، وإن كانت للجنس عمت بطريق اللفظ . والله أعلم .
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له شيئا من أشراط الساعة ، ثم قال : " في خمس لا يعلمهن إلا الله . ثم قرأ : إن الله عنده علم الساعة الآية .
وقال تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ يونس : 53 ] . وقال تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم [ سبأ : 3 - 5 ] .
وقال تعالى : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ لقمان : 28 ] . وقال تعالى : إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ غافر : 59 ] . وقال تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ النازعات : 27 ] . إلى آخر السورة . وقال تعالى : قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا [ الإسراء : 50 - 52 ] . وقال تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا [ الإسراء : 97 - 99 ] . وقال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ يس : 77 ] . إلى آخر السورة .
وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ الأحقاف : 33 ] وقال تعالى : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون . الآيات الثلاث إلى [ ص: 301 ] وهو العزيز الحكيم [ الروم : 25 - 27 ] .
وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ المؤمنون : 12 - 17 ] . فيستدل تعالى بإحياء الأرض الميتة على إحياء الأجساد بعد موتها وفنائها وتمزقها ، وصيرورتها ترابا وعظاما ورفاتا ، وكذلك يستدل ببدأة الخلق على إعادة النشأة الآخرة ، كما قال تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ الروم : 127 ] وقال تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير [ العنكبوت : 20 ] . وقال تعالى : والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون [ الزخرف : 11 ] . وقال تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [ فاطر : 9 ] . وفي " الأعراف " : كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ الأعراف : 57 ] . وقال تعالى : [ ص: 302 ] فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر [ الطارق : 5 - 9 ] . وكذلك سورة " ق " من أولها إلى آخرها فيها ذكر بعث ونشور ، وكذلك سورة " الواقعة " ، والقرآن كله طافح بهذا ، ولا تبديل لكلمات الله .
وذكر تعالى قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم في نومهم ثلاثمائة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها الآية [ الكهف : 21 ] . فجعل سبحانه ذلك دلالة على إحياء الموتى ، وإتيان الساعة لا ريب فيها . والله سبحانه أعلم ................................
سورة الأنبياء
مكية في قول الجميع ، وهي مائة واثنتا عشرة آية
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون
قوله تعالى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث محدث نعت ل ( ذكر ) . وأجاز الكسائي والفراء ( محدثا ) بمعنى ما يأتيهم محدثا ؛ نصب على الحال . وأجاز الفراء أيضا رفع محدث على النعت للذكر ؛ لأنك لو حذفت ( من ) رفعت ذكرا ؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث ؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة ، وآية بعد آية ، كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت ؛ لا أن القرآن مخلوق . وقيل : الذكر ما يذكرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعظهم به . وقال : من ربهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق إلا بالوحي ، فوعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحذيره ذكر ، وهو محدث ؛ قال الله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر . ويقال : فلان في مجلس الذكر . وقيل : الذكر الرسول نفسه ؛ قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية هل هذا إلا بشر مثلكم ولو أراد بالذكر القرآن لقال : هل هذا إلا أساطير الأولين ؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى : ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - . وقال : قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا . إلا استمعوه يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، أو القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من أمته . وهم يلعبون الواو واو الحال ، يدل عليه قوله تعالى : لاهية قلوبهم ومعنى يلعبون أي يلهون . وقيل : يشتغلون ؛ فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين : أحدهما : بلذاتهم . الثاني : بسماع ما يتلى عليهم . وإن حمل تأويله على الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين : أحدهما : بالدنيا لأنها لعب ؛ كما قال الله تعالى : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو . الثاني : يتشاغلون بالقدح فيه ، والاعتراض عليه . قال الحسن : كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل . وقيل : يستمعون القرآن مستهزئين .
[ ص: 179 ] لاهية قلوبهم أي ساهية قلوبهم ، معرضة عن ذكر الله ، متشاغلة عن التأمل والتفهم ؛ من قول العرب : لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا . و لاهية نعت تقدم الاسم ، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب ، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله : خاشعة أبصارهم و ودانية عليهم ظلالها و لاهية قلوبهم قال الشاعر [ كثير عزة ] : لعزة موحشا طلل يلوح كأنه خلل
بل نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض
وقال آخر [ الفرزدق ] :
ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه
[ ص: 180 ] وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ؛ مجازه : والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة : أسروا هنا من الأضداد ؛ فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم ، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه .
قوله تعالى : هل هذا إلا بشر مثلكم أي تناجوا بينهم وقالوا : هل هذا الذكر الذي هو الرسول ، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم ، لا يتميز عنكم بشيء ، يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق كما تفعلون . وما علموا أن الله - عز وجل - أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم . أفتأتون السحر أي إن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - سحر ، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه ؟ فأطلع الله نبيه - عليه السلام - على ما تناجوا به . و السحر في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة . وأنتم تبصرون أنه إنسان مثلكم مثل : كنتم تعقلون لأن العقل البصر بالأشياء . وقيل : المعنى ؛ أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر . وقيل : المعنى ؛ أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق ؛ ومعنى الكلام التوبيخ .
الجامع لأحكام القرآن »
سورة الأنبياء »
قوله تعالى اقترب للناس حسابهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق