وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في " الأهوال " : حدثنا حمزة بن العباس ، أخبرنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا عوف ، عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي ، حدثنا شهر بن حوشب ، حدثني ابن عباس ، قال : إذا [ ص: 474 ] كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وزيد في سعتها كذا وكذا ، وجمع الخلائق بصعيد واحد; جنهم وإنسهم ، فإذا كان كذلك قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها ، فنثروا على وجه الأرض ، ولأهل هذه السماء الدنيا وحدهم أكثر من جميع أهل الأرض ، جنهم وإنسهم بالضعف ، فإذا رآهم أهل الأرض فزعوا إليهم ، ويقولون : أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ، ويقولون : سبحان ربنا ليس فينا ، وهو آت . ثم تقاض السماء الثانية ، ولأهل السماء الثانية أكثر من أهل هذه السماء الدنيا ، ومن جميع أهل الأرض بالضعف ، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض ، ويقولون : أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ، ويقولون : سبحان ربنا! ليس فينا ، وهو آت . ثم تقاض السماوات سماء سماء ، كلما قيضت سماء كانت أكثر من أهل السماوات التي تحتها ، ومن جميع أهل الأرض بالضعف؟ جنهم وإنسهم ، كلما نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض ، ويقولون لهم مثل ذلك ، ويرجعون إليهم مثل ذلك حتى تقاض السماء السابعة ، ولأهلها وحدهم أكثر من أهل ست سماوات ، ومن أهل الأرض بالضعف ، ويجيء الله فيهم ، والأمم جثا صفوف ، فينادي مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، ليقم [ ص: 475 ] الحمادون لله على كل حال ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، ثم ينادي ثانية : ستعلمون من أصحاب الكرم اليوم ، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون [ السجدة : 16 ] ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، ثم ينادي ثالثة : ستعلمون من أصحاب الكرم اليوم ، ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [ النور : 37 ] ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، فإذا لم يبق أحد من هؤلاء الثلاثة خرج عنق من النار ، فأشرف على الخلائق ، له عينان بصيرتان ، ولسان فصيح ، فيقول : إني وكلت بثلاثة ، وكلت بكل جبار عنيد . فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيخنس بهم في جهنم ، ثم يخرج الثانية ، فيقول : إني وكلت بمن آذى الله ورسوله . فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيخنس بهم في جهنم ، ثم يخرج الثالثة ، فيقول : إني وكلت بأصحاب التصاوير . فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيخنس بهم في جهنم ، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة ، ومن هؤلاء ثلاثة ، نشرت الصحف ، ووضعت الموازين ، ودعيت الخلائق للحساب .
وقد قال الله تعالى : [ ص: 476 ] كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ الفجر : 21 - 23 ] ، الآيات . وقال تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور [ البقرة : 210 ] وقال تعالى : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون [ الزمر : 69 ، 70 ] . وقال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ الفرقان : 25 ، 26 ] .
وقال في حديث الصور : " فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه . يعني بذلك كرسي فصل القضاء ، وليس هذا بالكرسي المذكور في آية الكرسي ، ولا المذكور في " صحيح ابن حبان " : " ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وما الكرسي في العرش إلا كتلك الحلقة بتلك الفلاة ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " .
وقد يطلق على هذا الكرسي اسم العرش ، فقد ورد ذلك في بعض الأحاديث ، كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة : سبعة يظلهم الله في ظله " - وفي رواية : " في ظل عرشه " - " يوم لا ظل إلا ظله " الحديث بتمامه .
[ ص: 477 ] وثبت في " صحيح البخاري " من حديث الزهري ، عن أبي سلمة ، وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فأفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور؟ " . فقوله : " أم جوزي بصعقة الطور يدل على أن هذا الصعق الذي يحصل للناس يوم القيامة سببه تجلي الرب سبحانه لعباده لفصل القضاء ، فيصعق الناس من تجلي العظمة والجلال ، كما صعق موسى يوم الطور حين تجلى ربه للجبل فجعله دكا ، وخر موسى صعقا .
فموسى ، عليه السلام ، إذا صعق الناس يوم القيامة ; إما أن يكون جوزي بصعقة الطور فلا يصعق يومئذ ، وإما أن يكون صعق فأفاق ، أي صعق صعقة خفيفة ، فأفاق قبل الناس كلهم . والله أعلم .
وقد ورد في بعض الأحاديث ، أن المؤمنين يرون الله في عرصات القيامة ، كما ثبت في " الصحيحين " ، واللفظ للبخاري من طريق قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر ، فقال : " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته " . وفي رواية للبخاري : " إنكم سترون ربكم عيانا .
[ ص: 478 ] وجاء أنهم يسجدون له سبحانه يومئذ ، كما قال ابن ماجه : حدثنا جبارة بن المغلس الحماني ، حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد في السجود ، فيسجدون له طويلا ، ثم يقال : ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار " . وله شواهد من وجوه أخر ، كما سيأتي .
وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " حتى إن أحدهم ليتلفت فيكشف عن ساق ، فيقعون سجودا ، وترجع أصلاب المنافقين حتى تكون عظما ، كأنها صياصي البقر " . ثم قال : لا نعلم حدث به عن الأعمش إلا أبا عوانة ، قلت : وسيأتي له شاهد من وجه آخر .
وذكر في حديث الصور : " إن الله ينادي العباد يوم القيامة فيقول : إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا ، أرى أعمالكم وأسمع أقوالكم ، فأنصتوا لي ، فإنما هي أعمالكم ، وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
وروى الإمام أحمد ، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر [ ص: 479 ] بن عبد الله ، أنه اشترى راحلة ، وسار إلى عبد الله بن أنيس شهرا ; ليسمع منه حديثا بلغه عنه ، فلما سأله عنه ، قال : سمعت رسول الله يقول : " يحشر الناس يوم القيامة - أو قال : العباد - عراة غرلا بهما " . قلنا : وما بهما ؟ قال : " ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق ، حتى أقصه منه ، حتى اللطمة " . قال : قلنا : وكيف وإنا إنما نأتي الله بهما ؟ قال : " بالحسنات والسيئات " .
وفى " صحيح مسلم " ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي الطويل : " يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
وقد قال تعالى : إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد [ هود : 103 - 105 ] . ثم ذا سبحانه ما أعده للأشقياء ، وما أعده للسعداء ، وقال تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ النبإ : 38 ] .
وثبت في " الصحيحين " : " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل " . وقد عقد [ ص: 480 ] البخاري ، رحمه الله بابا في ذلك ، فقال في كتاب التوحيد من " صحيحه " : باب كلام الرب ، سبحانه وتعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم . ثم أورد فيه حديث أنس في الشفاعة بتمامه ، وحديث عدي : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه " الحديث ، وحديث ابن عمر في النجوى .
ونحن نورد في هذه الترجمة أحاديث أخر ، مناسبة لهذا الباب . وقد قال الله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ المائدة : 109 ] . وقال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ الأعراف : 6 ، 7 ] . وقال تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ الحجر : 92 ، 93 ] .
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا حمزة بن العباس ، أخبرنا عبد الله بن عثمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا رشدين بن سعد ، أخبرني ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة ، يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم يا رب ، قد بلغته جبريل ، فيدعى جبريل فيقال له : هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغني . فيخلى عن إسرافيل ، ويقال لجبريل : هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل . فتدعى الرسل [ ص: 481 ] فيقول لهم : هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم . فيخلى عن جبريل ، ويقال للرسل : ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون : بلغنا أممنا . فتدعى الأمم ، فيقال لهم : هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ، ومنهم المصدق ، فيقول الرسل : إن لنا عليهم شهداء يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك . فيقول : من يشهد لكم؟ فيقولون : أمة أحمد . فتدعى أمة أحمد ، فيقول : أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه؟ فيقولون : نعم رب ، شهدنا أن قد بلغوا . فتقول تلك الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول لهم الرب تعالى : كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون : ربنا ، بعثت إلينا رسولا ، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك ، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا ، فشهدنا بما عهدت إلينا . فيقول الرب : صدقوا . فذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .
قال ابن أنعم : فبلغني أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد ، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه .
_____________________
قوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون
قوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع أي ترتفع وتنبو عن مواضع الاضطجاع . وهو في موضع نصب على الحال ; أي متجافية جنوبهم . والمضاجع جمع مضجع ; وهي مواضع النوم . ويحتمل عن وقت الاضطجاع ، ولكنه مجاز ، والحقيقة أولى . ومنه قول عبد الله بن رواحة :
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الصبح ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الزجاج والرماني : التجافي التنحي إلى جهة فوق . وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه . والجنوب جمع جنب . وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان : أحدهما : لذكر الله تعالى ، إما في صلاة وإما في غير صلاة ; قاله ابن عباس والضحاك . الثاني : للصلاة . وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال : أحدها : التنفل بالليل ; قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس ، وهو الذي فيه المدح ، وهو قول مجاهد والأوزاعي ومالك بن أنس والحسن بن أبي الحسن وأبي العالية وغيرهم . ويدل عليه قوله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين لأنهم جوزوا على ما أخفوا بما خفي . والله أعلم . وسيأتي بيانه .
وفي قيام الليل أحاديث كثيرة ; منها حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة [ ص: 94 ] الرجل من جوف الليل - قال : ثم تلا : - تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - يعملون أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذي ، وقال فيه : حديث حسن صحيح . الثاني : صلاة العشاء التي يقال لها العتمة ; قاله الحسن وعطاء . وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن هذه الآية تتجافى جنوبهم عن المضاجع نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة قال : هذا حديث حسن غريب . الثالث : التنفل ما بين المغرب والعشاء ; قاله قتادة وعكرمة . وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون قال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء . الرابع : قال الضحاك : تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة . وقاله أبو الدرداء وعبادة .
قلت : وهذا قول حسن ، وهو يجمع الأقوال بالمعنى . وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكر لله جل وعز ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة . وقال أنس : المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل . قال ابن عطية : وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان ، فجاء انتظار وقت العشاء غريبا شاقا . ومصلي الصبح في جماعة لا سيما في أول الوقت ; كما كان عليه السلام يصليها . والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أول الوقت يقوم سحرا يتوضأ ويصلي ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر ; فقد حصل التجافي أول الليل وآخره . يزيد هذا ما رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 95 ] يقول : من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله ولفظ الترمذي وأبي داود في هذا الحديث : من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة . وقد مضى في سورة ( النور ) عن كعب فيمن صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات كن له بمنزلة ليلة القدر .
وجاءت آثار حسان في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء وقيام الليل . ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني محمد بن الحجاج أو ابن أبي الحجاج أنه سمع عبد الكريم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة فقال له عمر بن الخطاب : إذا تكثر قصورنا وبيوتنا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر وأفضل - أو قال - أطيب . وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : صلاة الأوابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى تثوب الناس إلى الصلاة . وكان عبد الله بن مسعود يصلي في تلك الساعة ويقول : صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء ; ذكره ابن المبارك . ورواه الثعلبي مرفوعا عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من جفت جنباه عن المضاجع ما بين المغرب والعشاء بني له قصران في الجنة مسيرة عام ، وفيهما من الشجر ما لو نزلها أهل المشرق والمغرب لأوسعتهم فاكهة . وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين . وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء بين المغرب والعشاء .
فصل في فضل التجافي - ذكر ابن المبارك عن ابن عباس قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ; ليقم الحامدون لله على كل حال ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة . ثم ينادي ثانية : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ; ليقم الذين كانت [ ص: 96 ] جنوبهم تتجافى عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون . قال : فيقومون فيسرحون إلى الجنة . قال : ثم ينادي ثالثة : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ; ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة . ذكره الثعلبي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ، ثم ينادي الثانية ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون ، ثم ينادي الثالثة ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ، ليقم الحامدون لله على كل حال في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة ، ثم يحاسب سائر الناس . وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن رجل عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي ذر قال : ثلاثة يضحك الله إليهم ويستبشر الله بهم : رجل قام من الليل وترك فراشه ودفأه ، ثم توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة ; فيقول الله لملائكته : ( ما حمل عبدي على ما صنع ) فيقولون : ربنا أنت أعلم به منا ; فيقول : ( أنا أعلم به ولكن أخبروني ) فيقولون : رجيته شيئا فرجاه وخوفته فخافه . فيقول : ( أشهدكم أني قد أمنته مما خاف وأوجبت له ما رجاه ) قال : ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزم أصحابه وثبت هو حتى يقتل أو يفتح الله عليهم ; فيقول الله لملائكته مثل هذه القصة . ورجل سرى في ليلة حتى إذا كان في آخر الليل نزل هو وأصحابه ، فنام أصحابه وقام هو يصلي ; فيقول الله لملائكته . . وذكر القصة .
قوله تعالى : ( يدعون ربهم ) في موضع نصب على الحال ; أي داعين . ويحتمل أن تكون صفة مستأنفة ; أي تتجافى جنوبهم وهم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم . و ( خوفا ) مفعول من أجله . ويجوز أن يكون مصدرا . و ( طمعا ) مثله ; أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب . ومما رزقناهم ينفقون تكون ( ما ) بمعنى الذي وتكون مصدرا ، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من ( من ) و ( ينفقون ) قيل : معناه الزكاة المفروضة . وقيل : النوافل ; وهذا القول أمدح .
الجامع لأحكام القرآن »
سورة السجدة »
قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق