وأما المقام المحمود المحمدي يوم القيامة فلا يساويه ، بل ولا يدانيه أحد فيه ، ويحصل له من التشريفات ما يغبطه بها الخلائق كلهم .
وقد تقدم ما ورد في المقام المحمود من الأحاديث ، وأنه صلى الله عليه وسلم أول من يسجد بين يدي الله تعالى يوم القيامة ، وأول من يشفع فيشفع ، وأول من يكسى [ ص: 490 ] بعد الخليل حلتين خضراوين ، ويجلس الخليل بين يدي العرش ، ومحمد صلى الله عليه وسلم عن يمين العرش ، فيقول : " يا رب ، إن هذا - ويشير إلى جبريل - أخبرني عنك أنك أرسلته إلي " . فيقول الله تعالى : صدق جبريل " .
وقد روى ليث بن أبي سليم ، وأبو يحيى القتات ، وعطاء بن السائب ، وجابر الجعفي ، عن مجاهد ، أنه قال في تفسير المقام المحمود : إنه يجلسه معه على العرش . وروي نحو هذا عن عبد الله بن سلام ، وجمع فيه أبو بكر المروذي جزءا كبيرا ، وحكاه هو وغيره عن غير واحد من السلف وأهل الحديث; كأحمد ، وإسحاق بن راهويه وخلق . وقال ابن جرير : وهذا شيء لا ينكره مثبت ولا ناف . وقد نظمه الحافظ أبو الحسن الدارقطني في قصيدة له .
قلت : ومثل هذا لا ينبغي قبوله إلا عن معصوم ، ولم يثبت في هذا حديث يعول عليه ، ولا يصار بسببه إليه ، وقول مجاهد ، وغيره في هذا : إنه المقام المحمود ليس بحجة بمجرده ، وكذلك ما روي عن عبد الله بن سلام لا يصح ، ولكن قد تلقاه جماعة من أهل الحديث بالقبول ، ولم يصح إسناده إلى ابن سلام . والله سبحانه أعلم بالصواب .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو سفيان المعمري ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 491 ] " إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون للإنسان إلا موضع قدميه " . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : يا رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي . فيقول الله تعالى : صدق . ثم أشفع فأقول : يا رب ، عبادك في أطراف الأرض . فهو المقام المحمود " .
قلت : قد ورد في المقام المحمود أنه الشفاعة العظمى في الخلق ليقضى بينهم حين يأتون آدم ، ونوحا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، فإذا جاءوا لدى النبي صلى الله عليه وعليهم ، قال : " أنا لها ، أنا لها " . فهذا هو المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون ، كما روي في الأحاديث الصحيحة .
______________________-
قوله تعالى : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب
قوله تعالى : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله اختلف في وقت هذه المقالة ; فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين : إنما يقول له هذا يوم القيامة ، وقال السدي وقطرب . قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت ; واحتجوا بقوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك فإن إذ في كلام العرب لما مضى ، والأول أصح ; يدل عليه ما قبله من قوله : يوم يجمع الله الرسل [ ص: 289 ] الآية وما بعده هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . وعلى هذا تكون إذ بمعنى " إذا " كقوله تعالى : ولو ترى إذ فزعوا أي : إذا فزعوا ، وقال أبو النجم :
ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العلا يعني إذا جزى ، وقال الأسود بن جعفر الأزدي :
فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا
يعني إذا هازلتهن ، فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي ; لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه ، كأنه قد وقع ، وفي التنزيل ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ومثله كثير وقد تقدم ، واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين : أحدهما : أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب ، وأشد في التوبيخ والتقريع . الثاني : قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده ، وادعوا عليه ما لم يقله . فإن قيل : فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل : لما كان من قولهم إنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له .
قوله تعالى : قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته خرج الترمذي عن أبي هريرة قال : تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : فلقاه الله سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية كلها . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين : أحدهما : تنزيها له عما أضيف إليه . الثاني : خضوعا لعزته ، وخوفا من سطوته ، ويقال : إن الله تعالى لما قال لعيسى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال : سبحانك ثم قال : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي : أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها ، يعني أنني مربوب ولست برب ، وعابد ولست بمعبود . ثم قال : إن كنت قلته فقد علمته فرد ذلك إلى علمه ، وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ، ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها . ثم قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أي : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وقيل : المعنى تعلم ما أعلم [ ص: 290 ] ولا أعلم ما تعلم ، وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه . وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك ; لأن السر موضعه النفس وقيل : تعلم ما كان مني في دار الدنيا ، ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة .
قلت : والمعنى في هذه الأقوال متقارب ; أي : تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك . إنك أنت علام الغيوب ما كان وما يكون ، وما لم يكن وما هو كائن .