وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في " الصحيحين " : " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " . وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء ، في زمن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان; انزاحت يد قيصر ذلك الوقت - واسمه هرقل - عن بلاد الشام والجزيرة ، وثبت ملكه مقصورا على بلاد الروم فقط ، والعرب إنما كانوا يسمون قيصر لمن ملك بلاد الروم مع الشام والجزيرة . وفي هذا الحديث بشارة عظيمة لأهل الشام; وهو أن يد ملك الروم لا تعود إليها أبد الآبدين . وسنورد هذا الحديث قريبا بإسناده ومتنه إن شاء الله تعالى . وأما كسرى فإنه سلب عامة ملكه في زمن عمر بن الخطاب ، ثم استؤصل باقيه في خلافة عثمان ، وقتل في سنة ثنتين وثلاثين ، ولله الحمد والمنة ، وقد بسطنا ذلك مطولا فيما سلف ، وقد دعا على كسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أنه مزق كتابه ، بأن يمزق ملكه كل ممزق ، فوقع الأمر كذلك .
وثبت في " الصحيحين " من حديث الأعمش ، وجامع بن أبي راشد ، عن [ ص: 7 ] شقيق بن سلمة ، عن حذيفة ، قال : كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب ، فقال : أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت : أنا . قال : هات إنك لجريء . فقلت : ذكر فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره ، يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقال : ليس هذا أعني ، إنما أعني التي تموج موج البحر . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها بابا مغلقا . فقال : ويحك ! أيفتح الباب أم يكسر؟ قلت : بل يكسر . قال : إذا لا يغلق أبدا . قلت : أجل . فقلنا لحذيفة : أكان عمر يعلم من الباب؟ قال : نعم; إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط . قال : فهبنا أن نسأل حذيفة : من الباب؟ فقلنا لمسروق : سله . فسأله ، فقال : هو عمر . وهكذا وقع الأمر سواء بعد مقتل عمر في سنة ثلاث وعشرين; وقعت الفتن بين الناس بعد مقتله ، وكان ذلك سبب انتشارها بينهم .
وثبت في " الصحيحين " عن أم حرام بنت ملحان أن ناسا من هذه الأمة يغزون البحر مرتين ، وأنها تكون مع الأولين ، فكان الأمر كذلك في سنة سبع وعشرين ، مع معاوية في خلافة عثمان ، حين استأذن عثمان في غزو قبرس ، [ ص: 9 ] فأذن له فركب المسلمون المراكب إليها وفتحوها قسرا ، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة ، وكانت أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت ، وكان مع معاوية في هذه الغزوة زوجته فاختة بنت قرظة . وأما غزوة البحر الثانية فكانت في سنة ثنتين وخمسين في أيام معاوية أيضا ، غزاها ابنه يزيد ومعه الجنود فدخلوا إلى القسطنطينية ، وكان معه في هذا الجيش جماعة من أعيان الصحابة ، منهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد ، رضي الله عنه ، فمات هنالك وأوصى إلى يزيد بن معاوية ، أن يدفنه تحت سنابك الخيل ، وأن يوغل به إلى أقصى ما يمكن أن ينتهي به إلى نحو جهة العدو ، ففعل ذلك .
وتفرد البخاري بما رواه من طريق ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عمير بن الأسود العنسي ، عن أم حرام ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا " . قالت أم حرام : قلت : يا رسول الله ، أنا فيهم؟ قال : " أنت فيهم " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم " . قلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : " لا " .
محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس بن دينار ، الإمام الحافظ الثبت أبو موسى ، العنزي البصري الزمن .
ولد مع بندار في عام وفاة حماد بن سلمة .
وحدث عن : عبد العزيز بن عبد الصمد العمي . وسفيان بن عيينة ، ومعتمر بن سليمان ، وحفص بن غياث ، وابن إدريس ، ومرحوم بن عبد العزيز ، وأبي معاوية ، والوليد بن مسلم ، وغندر ، ويحيى القطان ، ويزيد ابن زريع ، ومعاذ بن معاذ ، ومحمد بن أبي عدي ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى ، وخلق كثير . وينزل إلى عفان ، وأبي الوليد ، لا بل ينزل إلى [ ص: 124 ] تلميذه أبي جعفر أحمد بن سعيد الدارمي . جمع وصنف ، وكتب الكثير .
روى عنه : الجماعة ستتهم ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وبقي ، وابن أبي الدنيا ، وجعفر الفريابي ، وأبو يعلى ، وأبو بكر بن أبي داود ، وابن خزيمة ، وابن صاعد ، ومحمد بن هارون الروياني ، وقاسم المطرز ، وأبو عروبة ، وزكريا الساجي ، وأبو عبد الله المحاملي ، وخلق كثير .
قال محمد بن يحيى الذهلي : حجة .
وقال صالح جزرة : صدوق اللهجة ، في عقله شيء ، وكنت أقدمه على بندار .
وقال أبو حاتم : صدوق صالح الحديث .
وقال أبو عروبة : ما رأيت بالبصرة أثبت من أبي موسى ، ويحيى بن حكيم .
وقال النسائي : كان لا بأس به ، كان يغير في كتابه .
وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ; أخبرنا محمد بن المثنى ، وكان من الأثبات . [ ص: 125 ]
وقال ابن حبان : كان صاحب كتاب ، لا يقرأ إلا من كتابه .
وقال الخطيب : كان صدوقا ورعا .
وقال في موضع آخر : كان ثقة ثبتا ، احتج به سائر الأئمة . ويروي أن أبا موسى مزح مرة ، فقال : نحن قوم لنا شرف ، صلى إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- .
قال إبراهيم بن محمد الكندي وغيره : مات أبو موسى في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين ومائتين .
قال أبو أحمد بن الناصح : سمعت محمد بن حامد بن السري ، وقلت له : لم لا تقول في محمد بن المثنى إذا ذكرته : الزمن ، كما يقول الشيوخ ؟ فقال : لم أره زمنا ، رأيته يمشي ، فسألته فقال : كنت في ليلة شديدة البرد ، فجثوت على يدي ورجلي ، فتوضأت ، وصليت ركعتين ، وسألت الله ، فقمت أمشي . قال : فرأيته يمشي ، ولم أره زمنا . حكاية صحيحة ، رواها السلفي عن الرازي ، أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد الفارسي ، حدثنا ابن الناصح .
عرض في كتاب سير أعلام النبلاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق