قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : تكلمهم ، أي تخاطبهم مخاطبة . ورجح ابن جرير : تخاطبهم فتقول لهم : أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وحكاه عن علي ، وعطاء ، وفي هذا نظر . وعن ابن عباس : تكلمهم : تجرحهم . يعني تكتب على جبين الكافر : " كافر " وعلى جبين المؤمن : " مؤمن " . وعنه : تخاطبهم وتجرحهم . وهذا القول ينتظم المذهبين ، وهو قوى حسن جامع لهما ، والله أعلم .
وقد تقدم الحديث الذي رواه أحمد ، ومسلم ، وأهل السنن ، عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج [ ص: 248 ] ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن ، تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا " .
ولمسلم من حديث العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان ، أو الدجال ، أو الدابة ، أو خاصة أحدكم ، أو أمر العامة " .
وله أيضا عن أبي هريرة : " بادروا بالأعمال ستا : الدجال ، والدخان ، ودابة الأرض ، وطلوع الشمس من مغربها ، وأمر العامة ، وخويصة أحدكم " .
وروى ابن ماجه ، عن حرملة ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، وابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، ودابة الأرض ، والدجال ، وخويصة أحدكم ، وأمر العامة " . تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه .
وقال أبو داود الطيالسي : عن طلحة بن عمرو ، وجرير بن حازم; فأما [ ص: 249 ] طلحة فقال : أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير ، أن أبا الطفيل حدثه عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سريحة ، وأما جرير فقال : عن عبد الله بن عبيد ، عن رجل من آل عبد الله بن مسعود . وحديث طلحة أتم وأحسن ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة ، فقال : لها ثلاث خرجات في الدهر ، فتخرج خرجة من أقصى البادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ، ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك ، فيعلو ذكرها في أهل البادية ، ويدخل ذكرها القرية " . يعني مكة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها; المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ، تنفض عن رأسها التراب ، فارفض الناس عنها شتى ومعا ، وثبتت عصابة من المؤمنين ، وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله ، فبدأت بهم ، فجلت وجوههم حتى جعلتها كالكوكب الدري ، وولت في الأرض ، لا يدركها طالب ، ولا ينجو منها هارب ، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه ، فتقول : يا فلان ، الآن تصلي؟! فيقبل عليها ، فتسمه في وجهه ، ثم تنطلق ، ويشترك الناس في الأموال ، ويصطحبون في الأمصار ، يعرف المؤمن من الكافر ، حتى إن المؤمن ليقول : يا كافر ، اقضني حقي . وحتى إن الكافر ليقول : يا مؤمن ، اقضني حقي " . هكذا رواه مرفوعا من هذا الوجه بهذا السياق ، وفيه [ ص: 250 ] غرابة . ورواه ابن جرير من طريقين ، عن حذيفة بن أسيد موقوفا ، ورواه أيضا عن حذيفة بن اليمان مرفوعا ، وفيه أن ذلك في زمان عيسى ابن مريم وهو يطوف بالبيت ، ولكن في إسناده نظر ، فالله أعلم .
وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة ، أن ابن عباس ، قال : هي دابة ذات زغب ، لها أربع قوائم ، تخرج من بعض أودية تهامة . ورواه سعيد بن منصور ، عن عثمان بن مطر ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، بنحوه " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، قال : قال عبد الله : تخرج الدابة من صدع من الصفا ، [ ص: 251 ] كجري الفرس ثلاثة أيام ، لا يخرج ثلثها .
وعن عبد الله بن عمرو ، أنه قال " تخرج الدابة من تحت صخرة بشعب أجياد ، فتستقبل المشرق ، فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل الشام ، فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المغرب ، فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل اليمن ، فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تروح من مكة ، فتصبح بعسفان . قيل له : ثم ماذا؟ قال : ثم لا أعلم . وعنه أنه قال : تخرج الدابة ليلة جمع . وعن وهب بن منبه ، أنه حكى عن عزير النبي ، أنه قال : تخرج الدابة من تحت سدوم . يعني مدينة قوم لوط ، فهذه أقوال متعارضة ، فالله أعلم .
وعن أبي الطفيل ، أنه قال : تخرج الدابة من الصفا أو المروة . رواه البيهقي ، ثم ساق من حديث يحيى بن معين : حدثنا هشام بن يوسف ، حدثنا رباح بن عبيد الله بن عمر ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول [ ص: 252 ] الله صلى الله عليه وسلم : " بئس الشعب شعب جياد " . مرتين ، أو ثلاثا ، قالوا : ولم ذاك يا رسول الله؟ قال : " تخرج منه الدابة ، فتصرخ ثلاث صرخات ، فيسمعها من بين الخافقين " .
وقد روى الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، وبهز بن أسد ، وعفان بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فتخطم أنف الكافر بالخاتم ، وتجلو وجه المؤمن بالعصا ، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون ، فيقول هذا : يا مؤمن . ويقول هذا : يا كافر " . ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يونس بن محمد المؤدب ، عن حماد بن سلمة ، به ، ورواه أبو داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة ، فذكره مثله ، إلا أنه قال : " فتخطم أنف الكافر بالعصا ، [ ص: 253 ] وتجلو وجه المؤمن بالخاتم " . وهذا أنسب ، والله أعلم .
وقال ابن جريج عن أبي الزبير ، أنه وصف الدابة ، فقال : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن إيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا ، يخرج معها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان ، فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم ذا يا مؤمن؟ بكم ذا يا كافر؟ وحتى إن أهل البيت ليجلسون على مائدتهم ، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم ، ثم تقول [ ص: 254 ] لهم الدابة : يا فلان ، أبشر ، أنت من أهل الجنة . و : يا فلان ، أنت من أهل النار . فذلك قوله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون [ النمل : 82 ] . وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن مسعود أن الدابة تقتل إبليس الرجيم ، وذلك فيما رواه نعيم بن حماد في كتاب " الفتن والملاحم " ، تصنيفه ، والله أعلم بصحته .
...............................
قوله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم : اختلف في معنى وقع القول وفي ( الدابة ) فقيل : معنى وقع القول عليهم وجب الغضب عليهم ; قاله قتادة . وقال مجاهد : أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون . وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما : إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم . وقال عبد الله بن مسعود : ( وقع القول ) يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن . قال عبد الله : أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع ، قالوا : هذه المصاحف ترفع ، فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا ، وينسون لا إله إلا الله ، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم ، وذلك حين يقع القول عليهم .
قلت : أسنده أبو بكر البزار قال : حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي قال : حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه أنه قال : أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه ; وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع ; قالوا : يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا . فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية ، وذلك حين يقع القول عليهم . وقيل : القول هو قوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء ،
[ ص: 217 ] فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة ; ذكره القشيري . وقول سادس : قالت حفصة بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم فقال : أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف . قال النحاس : وهذا من حسن الجواب ; لأن الناس ممتحنون ومؤخرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين ، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب ; فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية ، فإذا زال هذا وجب القول عليهم ، فصاروا كقوم نوح حين قال الله تعالى : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن .
قلت : ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين : إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا ، فيهلك من هلك عن بينة : ويحيا من حيي عن بينة . قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب ( المفهم ) له : وإن ما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى : ( تكلمهم ) وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة ، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث ; لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير ، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر ، [ ص: 219 ] وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول ، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة ; وهذا خروج عن عادة الفصحاء ، وعن تعظيم العلماء ، وليس ذلك دأب العقلاء ; فالأولى ما قاله أهل التفسير ، والله أعلم بحقائق الأمور .
قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا أي زمرة وجماعة . ممن يكذب بآياتنا يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق . فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب . قال الشماخ :
وكم وزعنا من خميس جحفل وكم حبونا من رئيس مسحل وقال قتادة : يوزعون أي يرد أولهم على آخرهم . حتى إذا جاءوا قال أي قال لهم الله أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي ، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي . ولم تحيطوا بها علما أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين . أم ماذا كنتم تعملون تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها . ووقع القول عليهم بما ظلموا أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم . فهم لا ينطقون أي ليس لهم عذر ولا حجة . وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون ; قاله أكثر المفسرين .
قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه أي يستقرون فينامون . والنهار مبصرا أي يبصر فيه لسعي الرزق . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بالله . ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته ، أي : ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا .
الجامع لأحكام القرآن »
سورة النمل »
قوله تعالى وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق